في بعض اليساريين اللي قلبو الفيسته...
لا شك أن اليسار التونسي الذي يدافع عن المحرومين والمضطهدين في تونس تواجد منذ عشرات السنين أيام الصدام الفكري الذي حدث بين النخب التونسية والاستعمار الفرنسي، فاكتشف التونسيون حينها بيئة معرفية مختلفة نهلوا منها أفكارهم التي سرعان ما استعملوها لمقارعة الاحتلال. فأسماء مثل محمد علي الحامي وفرحات حشاد وأحمد بن صالح التي وقفت إلى جانب العمال وناهضت الاستعمار ما تزال ترن في أذاننا إلى اليوم.
واثر الاستقلال، وبعد المنعطف الذي اتبعه الحبيب بورقيبة قصد احتوائه للدولة والمجتمع، انقض جموع من الشباب التونسي التائق إلى الحرية التي ناضل من أجلها سابقوه فما كان إلا أنه اصدم بأهواء ورغبات بورقيبة في الحكم الفردي. شباب آمن بالنضال من أجل الحق في الحرية والتحرر واتخذ من الماركسية بشتى امتداداتها مناهج تحليل وبدائل مقترحة من أجل خلاص مجتمعهم. وبعد أن أفرغت السجون تونسيين من مناهضي الاستعمار، امتلأت بتونسيين من مناهضي الحكم البورقيبي. فقاسى المئات من اليساريين ويلات السجون وتعرضوا لشتى أصناف التعذيب. فكانت فعلا عشريات الرصاص.
ولما شعر بورقيبة بغير جدوى الإبقاء على تونسيين هاجسهم الأصلي إصلاح ما أفسده مشروعه المجتمعي، ونتيجة لاحتداد الضغوطات الشعبية على سلطته، اضطر في آخر المطاف لإطلاق سراح تونسيين أختطف جلهم من مدارج الجامعات ومن منازل ذويهم. واختار أغلبهم مواصلة النضال من أجل المبادئ التي بموجبها حُبسوا.
وعندما أمسك بن علي بالحكم، اختار الكثير ممن كانوا ذات يوم يتلبسون بشعارات النضال من أجل الفئات الكادحة والمقهورين، الاصطفاف إلى جانبه ودعمه ومساندته، مستفيدين من فتات الامتيازات الممنوحة إليهم قصد اشتراء صمتهم. وكانوا فعلا كما قال عنهم بول نيزان "كلاب حراسة"، فمقابل شغل قار وسيارة إدارية وتسهيلات من اجل أخذ قرض لاقتناء منزل، خيّر البعض منهم الانكفاء على أنفسهم والتخلي عن أفكارهم ومعتقداتهم، ووصل بهم الأمر إلى حد محاربة كل من اختار مواصلة طريق النضال بالأشكال التي يعتقد في صحتها. بل وصلت بهم الوقاحة إلى حدود التبجح دوما وفي كل محفل بتاريخ ناصع أرادوا تدنيسه بتواطئهم وتخاذلهم.
طبعا، من الخطأ بمكان أن نعمم مثل هذا التوصيف على أجيال متواترة من المناضلين اليساريين الذين واصلوا السير على نفس الخط الذي اتبعوه منذ البداية، فمناضلين مثل جلبار نقاش ونور الدين بن خذر وأحمد كرعود وفتحي بن الحاج يحيي وعلي سعيدان ومحمد صالح فليس ومحمد الكيلاني ومحمد معالى وغيرهم كثر آثروا إكمال الطريق ولو كل حسب موقعه ومركزه ورؤيته للأشياء، وهو ما حرمهم ما تمتع به البعض من "الخونة" و"المرتزقة"، وهم على العهد بأفكارهم، وهم أمل جميع التونسيين.
سفيان الشورابي